أصيل E
عدد الرسائل : 183 العمر : 51 الأوسمه : تاريخ التسجيل : 21/03/2008
| موضوع: الإنسان قيمة عليا الجمعة أبريل 25, 2008 1:52 am | |
|
إنّ القضية المحورية في منهج القرآن هي إنسانية الانسان واحترامها، وتعريفه حقّه تجاه ربّه وبني نوعه ، والحفاظ على تلك الحقـوق من خلال تعامل خالق الوجود في هذا الوجود والمجتمع والسلطة معه ، ونظرته إلى ذاته . فالذي لا يفهم قيمته الانسانية في هذا الوجود لا يستطيع أن يحقِّق لذاته قيمة لدى الآخرين في الأسرة والمجتمع والدّولة .
ويحدِّد القرآن هذه القيمة الانسانية من خلال حديثه عن كيفـيّة تعامل خالق الوجود معه،قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُم فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُم عَلَى كَثِير مِمَّن خَلَقْنا تَفْضِيلاً ). ( الإسراء / 70 ) والقرآن حين يتحدّث عن الانسان يتحدّث عنه كقيمة إنسانية ، وليس أجهزة ماديّة تُمارِس عملها بالطّرق البايولوجية والفسيولوجية، وإن أعطى هذا الجانب حقّه .
فهو تعامل مع الانسان بانسانيّته ، الإنسان العاقل المُدرِك ، الإنسان المُريد المختار، الإنسان الأخلاقي الذي يستحسن الخير والحبّ والجمال، ويستقبح القبح والشرّ في سلوكه والموضوعات من حوله ، ويستشعر قيمتها في وعيه ووجدانه .
وحينما يتصرّف الانسان كعقل وشعور وجداني ، وإرادة ومشاعر ، ويتحرّك ويعمل من حول قيم الحق والخير والجمال ، يكون قد تحرّك من خلال إنسانيّته ..
فهو يستطيع أن يفهم أ نّه إنسان عندما يُحقّ الحقّ ويُبطِل الباطل .. ويستطيع أن يفهم أ نّه إنسان عندما يرفض الظّلم والعدوان على الآخرين ، ويميِّز بين العدل والظّلم ، فينصر المظلوم ويردع الظّالم .. ويستطيع أن يفهم أ نّه إنسان عندما يتصرّف كعاقل مُدرِك مع الأشياء والوقائع ، وما يواجهه من مواقف وأفكار واطروحات تعاملاً عقليّاً .. ويستطيع أن يفهم أ نّه إنسان عندما يواجه آلام الآخرين فيتحسّس تلك الآلام ، ويشاركهم محنتهم..
ويستطيع أن يفهم أ نّه إنسان عندما يستعمل إرادته وعقله ، عندما يواجه إثارات تقوده فيها الغريزة والشّهوة والإنفعال ، ليتحرّك من غير إرادة ولا إختيار ، ثمّ يعود له وعيه ..
فعندما تتوارى المشاعر والأحاسيس الانسانية من نفسه ، ويغيب العقل والإرادة فلا يُفرِّق بين الحقّ والباطل، ولا يميِّز بين الحَسن والقبيح في فعله وقوله . ولا يقف إلى جانب المظلوم والمضطهد ، ولا تتحرّك في وجدانه مشاعر الرّحمة تجاه المعذّب والمحروم، ولاتعيش في نفسه مشاعر الحبّ والخير للآخرين، ولايقابل الإحسان بالإحسان..
عندما تتكاثف تلك الحالات الظّلاميّة في نفس هذا الكائن ، يفقد إنسانيّته فيتحوّل في مفهوم القرآن إلى حيوان، لايستحقّ إسم الانسان. (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إلاّ كالأنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ).(الفرقان/44)
(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَيُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذَانٌ لاَيَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلُونَ * وَللهِِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُـوهُ بِها وَذَرُوا ا لّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُون ). ( الأعراف / 179 ـ 180 )
والقرآن في هاتين الآيتين يوحي لنا بأنّ انسانيّة الانسان لاتتكامل إلاّ عندما يؤمن أنّ هناك أسماءً من الحقّ والعدل والعفو والرّحمة والإحسان والحبّ والخير والجمال ... هي أسماء الله التي سُمِّيت بها ذاته وصفاته وأفعاله ، فيتّجه نحوها ويجسِّد مفاهيمها قيماً سلوكيّة في حياته .
فيصنع الحياة بوحي من تلك القيم ، وبذا تتسامى ذات الانسان نحو الربّانيّة وتكتمل في الربّانيِّين الّذين اتّبعوا الدِّين، لذا يدعونا الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نحقِّق إنسانيتنا بالتخلّق بتلك الصِّفات التي سمّاها القرآن الحُسنى،فقال:"تخلّقوا بأخلاق الله".
ويأتي البيان النبويّ ليوضِّح العلاقة بين الإيمان والالتزام بالقيم الأخلاقيّة ، فيقول : "أكملكم إيماناً أحسنكم خلقاً" . وعندما يسود المعمورة الحبّ والسّلام ، وتشرق شمس العدل في كل أفق من ربوع الأرض، ويلتزم الانسان بقيم الحق والعدل، ويتعامل الناس بالصِّدق والرّحمة، ويتسامون نحو الرّبّ ومبدأ الوجود ، يستطيع هذا الكائن أن يقول أنا إنسان .
أمّا الأسلحة والصّواريح والقنابل النووية والأسلحة الكيمياوية والجرثومية التي صنعها الانسان،وقدرات الانتاج المحتكرة التي تجلب على البشرية الظّلم والاسـتعباد والحرمان،فإنّها ومع غياب القِيَم الانسانية لاتصنع من هذا الكائن إنساناً،بل وتقترب به من الشيطانية والبهيميّة.
وتلك صورة الانسان عندما يتجرّد من إنسـانيته كما يرسمها لنا القرآن : (... إِنْ هُمْ إلاّ كالأنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ).
وهكذا تتجسّد لنا صورتان متقابلتان تعرضهما الآيتان ; صورة الانسان الأضلّ من البهيمة، إنسان الظّلم والكفر والحقد والشرّ والفساد والشحّ ، وصورة الإنسان المتمثِّل للأسماء الحسنى، إنسان الحقّ والعدل والحبّ والإيمان والإصلاح .
والإنسان الحضاري هو الانسان الذي يسعى القرآن لصـنعه هو إنسان الحقّ والعدل والحب والرحمة ..وكم حشّد القرآن من وسائل التوعية والتربية للخروج بالانسان من الارتكاس في وحل البهيميّة إلى سموّ القيم،وإنسانيّة الانسان.وهو يتحدّث عن الانسان كمحور في هذه الحياة،فهو الخليفة المخاطَب بالعهد والأمانة والخلافة،وكان الحق سبحانه إلى جنبه في معركته مع الشيطان منذ انطلقت كلمة القدر،وخلق الانسان على هذه الأرض،وبدأت المعركة بينه وبين الشيطان،قوّة الشرّ،ومصدر العذاب والشّقاء.. إنّه العدوّ الأكبر للإنسان.
والقرآن يخاطب الانسان بأ نّه الخليفة في الأرض ، ويشرح قصّة الخلق والصِّراع وخضوع القوى كلّها للإنسان عدى نزعة الشّرّ ، ثمّ يتحدّث عن الخطيئة والتوبة والعيش على هذه الأرض ، ثمّ الهدى والرِّسالة . (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فيها ويُسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُون). (البقرة/30)
وفي هذا النص تصوير لممارسة الانسان الشرِّيرة على هذه الأرض،جريمة الفساد وسفك الدِّماء،ونكوص عن محتوى العهد والميثاق..والملائكة،عالم الطّهر والخير والنّقاء،ترى الوجود على الأرض تسبيحاً وتقديساً لخالق الوجود،وتجسيد الخير والسّلام،والإنسان يمارس جريمة القتل والإفساد في الأرض.لذا كان مجيء هذا المولود الجديد يثير التساؤل والاستفهام. إنّ هذه المحاورة تشرح لنا رؤية القرآن للحياة على هذه الأرض إنّها رؤية الخير والسّلام، ورفض الجريمة، جريمة القتل والإفساد في الأرض ، فقد خلق الانسان ليعمر الأرض بالعمل الصالح ، والإنتاج والعطاء : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ، قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُم فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَريبٌ مُجيب ). ( هود / 61 )
ويتحدّث القرآن عن الخلافة والإنسان الخليفة في الأرض، الإنسان الذي تحمّل كلّ هذه المسؤولية ، تحمّل الأمانة الكبرى : (إِنّا عَرَضْنا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَـالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَها الإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ).( الأحزاب / 72 )
وهو أيضاً صاحب عهد ومسؤوليّة وميثاق : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما ). (طه / 115 ) (فَلْنَسْأَ لَنَّ ا لَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَ لَنَّ المُرْسَلِين ). ( الأعراف / 6 )
وكلّ تلك القيم تجعل من الإنسان كائناً حضاريّاً تقوده قيم الخير ، وترتقي بإنسانيّته نحو السّعادة والسّلام .
| |
|